د. منى سليمان

اختتم الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي" زيارته إلى تركيا يوم 18 فبراير 2025، التي استغرقت يومين، استقبله خلالها نظيره التركي "رجب طيب أردوغان". وقد تزامنت الزيارة مع عقد أول مباحثات أمريكية روسية مباشرة بالعاصمة السعودية الرياض بغية إعادة تطبيع العلاقات بينهما بعد تبادل سحب السفراء عقب بدء الحرب الروسية بأوكرانيا في24 فبراير 2022، وكذلك بحث سبل إنهاء الحرب. بدوره انتقد "زيلينسكي" تغيب أوكرانيا عن حضور مباحثات الرياض؛ لأنها طرف رئيسي في الأزمة، وجدد مع "أردوغان" رغبتهما في إنهاء الحرب مع الحفاظ على سيادة أوكرانيا على كامل أراضيها، وهو ما يتعارض مع ما ألمحت إليه واشنطن مؤخراً، الذي يقضي بتنازل كييف عن بعض الأراضي لموسكو لإنهاء الحرب. وغداة ذلك وصل المبعوث الأمريكي الخاص إلى أوكرانيا "كيث كيلوج" إلى كييف لإجراء أول مباحثات مباشرة مع "زيلينسكي"؛ الأمر الذي ينذر بتراجع فرص تركيا كوسيط بين موسكو وكييف في ظل التفاوض الأمريكي الروسي المباشر، وهو ما يُعَد جزءاً من التغيرات الجيوسياسية بالمشهد الدولي المصاحبة لعودة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" إلى الحكم.أهداف متعددةأبدى "أردوغان" اهتماماً مضاعفاً بالأزمة الأوكرانية بعد بدء الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير 2022، وأدان "أردوغان" الاعتداء الروسي على السيادة الأوكرانية، ورفض الاعتراف بضم "جزيرة القرم" أو إقليم "الدونباس" إلى روسيا رغم تعاونه الاستراتيجي مع موسكو، وزار مدينة لفيف الأوكرانية في أغسطس 2022، كما أبدى "أردوغان" موافقته على انضمام أوكرانيا إلى حلف "الناتو". وخلال تلك الفترة، لعبت أنقرة دوراً بارزاً في الوساطة بين موسكو وكييف، واستضافت أول مفاوضات بينهما بإسطنبول في مارس 2022، بينما قام الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي" بزيارة تركيا ثلاث مرات منذ بداية الحرب في يوليو 2023 ومارس 2024، ثم في فبراير 2025 تلبيةً لدعوة "أردوغان"، وكان لها عدد من الأهداف والنتائج لعل أبرزها ما يلي:1– التوافق التركي الأوكراني: عقد "أردوغان" و"زيلينسكي" جلسة مباحثات سياسية موسعة حول تطورات الحرب الأوكرانية، وأكد "أردوغان" "تمسك تركيا بوحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها عليها" وهو ما وافق عليه "زيلينسكي"، وتوافقا على ضرورة إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. ورحَّب "زيلينسكي" "بمبادرات السلام"، لافتاً إلى أن الحرب مع روسيا تؤثر على منطقة البحر الأسود والعالم، واتفقا على تطوير التعاون المشترك بشتى المجالات. وبالتزامن مع ذلك عقد وزيرا الخارجية والدفاع التركيان "هاكان فيدان" و"يشار جولر"، كلٌّ على حدة، اجتماعاً مع وزير الدفاع الأوكراني "رستم عمروف" على هامش مؤتمر ميونخ للأمن؛ لتأكيد الدور التركي في تحقيق السلام في أوكرانيا.&nbsp;2– طرح تركيا كوسيط لحل الأزمة: رحَّب "أردوغان" بمبادرة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" لإنهاء الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وأكد أنها "تتوافق مع سياسة تركيا لتحقيق السلام"، وأكد أن تركيا ستُقدِّم كافة أشكال الدعم للتوسط لإنهاء الحرب الأوكرانية بسلام دائم واستضافة جولة المحادثات المحتملة بين روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة المقبلة؛ لأن "تركيا يمكنها أن تكون المضيف المثالي لأي مفاوضات بين الجانبَين الأوكراني والروسي استناداً إلى الفعاليات الدبلوماسية التي قامت بها خلال السنوات الثلاث الماضية، وكما فعلت من قبل عندما استضافت مفاوضاتهما في إسطنبول في عام 2022". جدير بالذكر أن إسطنبول استضافت أول تفاوض بين موسكو وكييف في مارس 2022، ثم رحَّب "أردوغان" بخطة "زيلينسكي" التي طرحها عام 2024 لإنهاء الحرب بناءً على دعم استقلال أوكرانيا وانسحاب روسيا من كامل أراضيها، وهو ما&nbsp;يتعارض مع النهج الروسي والأمريكي الحالي للحل؛ حيث ألمحت واشنطن إلى ضرورة تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها لموسكو لتحقيق السلام؛ ما سيعرقل الوساطة التركية.3– رغبة "زيلينسكي" في تأكيد شرعية حكمه: يهدف الرئيس الأوكراني "زيلينسكي" من زيارته إلى أنقرة ولقائه "أردوغان"، إلى تأكيد شرعية حكمه واستمرار قبول المجتمع الدولي به كرئيس لأوكرانيا، لا سيما أن ولايته انتهت رسمياً في مايو 2024، ولم يتم إجراء انتخابات رئاسية جديدة؛ نظراً إلى إعلان الأحكام العرفية بأوكرانيا منذ بداية الحرب في فبراير 2022؛ ما يحول دون إجرائها، وهو ما تسعى موسكو إلى الترويج له حالياً عبر التشكيك في شرعية "زيلينسكي" وأحقيته في التفاوض وتوقيع اتفاق سلام معها؛ حيث أكد المتحدث باسم الكرملين "ديميتري بيسكوف" "أن بوتين بنفسه مستعد للتفاوض مع زيلينسكي إذا لزم الأمر، لكن الإطار القانوني للاتفاقات يجب أن يخضع للنقاش"؛ حيث إن موسكو تتخوف من توقيع اتفاقيات مع كييف في ظل رئاسة "زيلينسكي" الذي انتهت ولايته؛ ما سيؤدي إلى عدم شرعية أي اتفاق سلام يوقَّع مستقبلاً بين روسيا وأوكرانيا.4– مشاركة تركية في إعادة الإعمار بأوكرانيا: أكد "أردوغان" استمرار دعمه لأوكرانيا في عمليات إعادة الإعمار ومشروعات البنية التحتية ونقل بترول البحر الأسود، وكشف عن رغبة الدولتين في رفع المستوى الاستراتيجي بينهما عبر زيادة حجم التبادل التجاري إلى 10 مليارات دولار سنوياً. ووقَّعت الدولتان اتفاقيتين في مجالَي الثقافة والتعليم. يُذكَر أن أنقرة تسعى إلى المشاركة في مشروعات إعادة الإعمار بأوكرانيا بعد وقف الحرب التي من المتوقع أن يمولها دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما أوضحته وزيرة الاقتصاد الأوكرانية "يوليا سفيريدينكو" التي أشارت إلي أن الشركات التركية يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في عملية إعادة الإعمار والتعافي ببلادها بعد انتهاء الحرب، وأوضحت أن التعاون الاقتصادي بين الدولتين استمر رغم الحرب منذ ثلاث سنوات، لا سيما صادرات الحبوب الأوكرانية إلى تركيا وصادرات الحديد والصلب التركية إلى أوكرانيا، وأكدت أن "تركيا شريك مهم واستراتيجي لأوكرانيا وإعادة إعمارها".5– العمل على استئناف اتفاق "تصدير الحبوب": أعرب "أردوغان" عن سعيه إلى استئناف اتفاق "تصدير الحبوب" من الموانئ الأوكرانية إلى تركيا ثم إلى الخارج. وكان الاتفاق قد وُقع في يوليو 2022 بوساطة تركية أممية لمنع حدوث أزمة بالأمن الغذائي العالمي عامةً والتركي خاصةً. وقد بدء تنفيذ الاتفاق واستمر لأكثر من عام حتى تم إيقافه في يوليو 2023 بعد تعليق روسيا مشاركتها فيه، وقدَّم "أردوغان" شكره إلى كييف على تصدير الحبوب الأوكرانية لسوريا الشهر الماضي عبر موانئ تركية؛ ما يمثل دعماً أوكرانياً للإدارة السورية الجديدة المدعومة من أنقرة.6– تعزيز التعاون العسكري: لجأت أوكرانيا إلى شراء صفقات أسلحة ومسيرات تركية لتعزيز الأسطول الجوي الأوكراني؛ ما أدى إلى تحفظ روسي؛ حيث قدَّمت شركة "بايكار" التركية، في منتصف عام 2022، ثلاث مسيرات لكييف، ثم أبرمت معها صفقة لبيع مسيرات (بيرقدار تي بي 2 القتالية) والمسيرة المقاتلة التركية الحديثة من الجيل الخامس (كآن). وكشفت كييف عن سعيها إلى إقامة مصنع للمسيرات التركية على أراضيها، كما كشفت تقارير استخباراتية أن أنقرة تمكنت من نقل "عناصر مقاتلة" من سوريا وليبيا إلى كييف لسد العجز البشري بالقوات الأوكرانية، وهو ما نفته أنقرة.تحديات جيوسياسيةأتت زيارة "زيلينسكي" إلى تركيا في ظل تغير توازن القوى الجيوسياسي بين كييف وموسكو لصالح الأخيرة؛ ما يضاعف أهمية الدعم التركي لكييف كدولة عضو "بالناتو" ترتبط بتعاون استراتيجي مع موسكو؛ ما يؤهلها للوساطة بينهما، بيد أن هناك عدداً من التحديات لاستئناف الوساطة التركية منها:1– التفاوض الأمريكي الروسي المباشر: فاجأ الرئيس الأمريكي "ترامب" العالم بموافقته على عقد مباحثات مباشرة مع نظيره الروسي "فلاديمير بوتين" ربما تُعقَد بنهاية فبراير 2025 في السعودية؛ وذلك بعد نجاح المباحثات التي عُقدت بين الطرفين بالرياض وحضرها وزير الخارجية الأمريكي "ماركو روبيو" ونظيره الروسي "سيرجي لافروف". وأكد الطرفان نجاح التفاوض الذي أسفر عن عودة تطبيع العلاقات بين موسكو وواشنطن وعودة السفراء في الدولتين بعد سحبهم عام 2022 بعد بدء الحرب. وقد بدا التوافق بين موسكو وواشنطن على ضرورة إنهاء الحرب سريعاً، فيما أبدت روسيا موافقتها على انضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي، ومعارضتها انضمامها إلى حلف "الناتو" أو نشر قوات تابعة للحلف بأوكرانيا، وهو ما يتوافق مع موقف "ترامب" الذي يميل إلى تقليص دور "الناتو"، وإبقاء سيطرة روسيا على الأراضي الأوكرانية بشرق البلاد، وهو ما رحبت به موسكو. وقد أكد "لافروف" أن الطرفين الروسي والأمريكي اتفقا على آلية مشتركة لإطلاق العملية السياسية؛ ما سيؤدي إلى تراجع فرص تركيا للعمل وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا؛ نظراً إلى أن واشنطن ستقوم بذلك.2– التوتر الأمريكي الأوكراني: انتقد "زيلينسكي" واشنطن لعدم تمثيل أوكرانيا في مباحثات الرياض رغم كونها طرفاً رئيسياً في الأزمة، وألغى زيارته التي كانت مقررةً إلى العاصمة السعودية. وقد فسَّرت واشنطن أن المباحثات كانت تهدف إلى تطبيع العلاقات الروسية الأمريكية في المقام الأول وليس بحث الحرب الأوكرانية. ومن جهة أخرى وجه "ترامب" انتقادات حادة إلى الرئيس الأوكراني، ووصفه بأنه "دكتاتور منتخب كان بيده عدم بدء الحرب"، ورفض تقديم المزيد من المساعدات الأمريكية العسكرية لكييف بعدما قدمت لها واشنطن (100مليار دولار) دعماً عسكرياً واقتصادياً خلال السنوات الثلاث الماضية؛ ما يؤكد أن التوتر سيكون السمة الغالبة على العلاقات الأمريكية الأوكرانية خلال&nbsp;ولاية "ترامب"، وهو ما سيعرقل وجود أي وساطة تركية بين موسكو وكييف؛ لأن أنقرة لن ترغب في إغضاب الرئيس الأمريكي وتوتير العلاقات الأمريكية التركية التي بها عدد من الملفات الخلافية الأخرى؛ أبرزها الموقف الأمريكي من الإدارة السورية الجديدة التي تتلقى دعماً تركياً.3– الانقسام الأوروبي الأمريكي "بالناتو": بالتزامن مع زيارة "زيلينسكي" إلى أنقرة، والمباحثات الأمريكية الروسية في الرياض، عقد الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" بباريس قمة أوروبية مصغرة لبحث الملف الأوكراني والأمن الأوروبي، حضره عدد كبير من قادة الدول الأوروبية؛ هذا في ظل معضلتين: الأولى هي الخلاف الأمريكي الأوروبي حول موازنة "الناتو" واستمرار دعمه لكييف ونشر قوات تابعة للحلف في أوكرانيا، وهو ما يرفضه "ترامب". والثانية هي الانقسام الأوروبي حول سبل استمرار الدعم العسكري لكييف؛ لأن بروكسل لا ترغب في خروج روسيا منتصرةً من الحرب أو التنازل عن أراضي أوكرانية لموسكو؛ لأن هذا ربما يشجع "بوتين" على تكرار السيناريو الأوكراني، وتهديد أي دولة بشرق وشمال أوروبا، والاستيلاء على أراضيها؛ لذا تسعى الدول الأوروبية بقيادة فرنسية إلى طرح حلول بديلة لحل الأزمة الأوكرانية. وهذا سينعكس سلباً على "الناتو" الذي يشهد انقساماً بين الموقف الأمريكي والأوروبي، وعلى تركيا أن تختار أي موقف ستؤيده.مما سبق، نجد أن الدور التركي كوسيط للسلام بين روسيا وأوكرانيا يتراجع في ظل التفاوض الأمريكي الروسي المباشر لإنهاء الحرب وتطبيع العلاقات بين موسكو وواشنطن؛ لذا ستعمل تركيا على تعزيز تعاونها مع كييف، واستمرار طرح وساطتها من دون الإضرار بمصالحها الاستراتيجية مع روسيا – حيث تعمل أنقرة وموسكو على تسوية عدد من الملفات؛ منها (سوريا، وليبيا، وآسيا الوسطى) – أو من دون توتير تعاون أنقرة مع واشنطن في ظل الإدارة الجديدة للرئيس "ترامب"؛ ولذا فإن على أنقرة إعادة صوغ توازنات السياسة الخارجية بناءً على ذلك.

مستقبل الوساطة التركية في الحرب الأوكرانية